فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إن الشيطان كان للرحمن عصيًا} أي عاصيًا {يا أبت إني أخاف} أي أعلم، وقيل هو على ظاهره لأنه يمكن أن يؤمن فيكون من أهل الجنة، أو يصر على الكفر فيكون من أهل النار فحمل الخوف على ظاهره أولى.
واعلم أن إبراهيم رتب هذا الكلام في غاية الحسن مقرونًا بالتلطف والرفق، فإن قوله في مقدمة كلامه يا أبت دليل على شدة الحب والرغبة في صرفه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب، لأنه نبه أولًا على ما يدل على المنع من عبادة الأصنام ثم أمره باتباعه في الإيمان، ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي بقوله إني أخاف {أن يَمَسَّك} أي يصيبك {عذاب من الرحمن} أي إن أقمت على الكفر {فتكون للشيطان وليًا} أي قرينًا في النار، وقيل صديقًا له في النار، وإنما فعل إبراهيم هذا مع أبيه لأمور أحدها: لشدة تعلق قلبه بصلاحية أبيه وأداء حق الأبوة والرفق به، وثانيها: أن النبيّ الهادي إلى الحق لابد أن يكون رفيقًا لطيفًا حتى يقبل منه كلامه، وثالثها: النصح لكل أحد فالأب أولى {قال} يعني أباه مجيبًا له {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم} أي أتاركها أنت وتارك عبادتها {لئن لم تتنه} أي ترجع وتسكت عن عيبك آلهتنا وشتمك إياها {لأرجمنك} قال ابن عباس: معناه لأضربنك، وقيل لأقتلنك بالحجارة، وقيل لأشتمنك، وقيل لأبعدنك عني بالقول القبيح والقول الأول هو الصحيح {واهجرني} أي اجتنبني قال ابن عباس: اعتزلني سالمًا لا يصيبنك مني معرة {مليئًا} أي دهرًا طويلًا.
{قال} يعني إبراهيم {سلام عليك} أي سلمت مني لا أصيبك بمكروه وذلك لأنه لم يؤمن بقتاله على كفره، وقيل هذا سلام هجران ومفارقة، وقيل هو سلام بر ولطف وهو جواب الحليم للسفيه {سأستغفر لك ربي}، قيل إنه لما أعياه أمره وعده أن يراجع الله فيه فيسأله أن يرزقه التوحيد ويغفر له، وقيل معناه سأسأل لك ربي توبة تنال بها المغفرة {إنه كان بي حفيًا} أي برًا لطيفًا والمراد أنه يستجيب لي إذا دعوته لأنه عودني الإجابة لدعائي {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله} أي أفارقكم وأفارق ما تعبدون من دون الله وذلك أنه فارقهم وهاجر إلى الأرض المقدسة {وأدعو ربي} أي أعبد ربي الذي خلقني وأنعم علي {عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيًا} أي أرجو أن لا أشقى بدعاء ربي وعبادته كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام، ففيه التواضع له مع التعريض بشقاوتهم.
قوله: {فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله} أي ذهب مهاجرًا {وهبنا له} أي بعد الهجرة {إسحاق ويعقوب} أي آنسنا وحشته من فراقهم بأولاد أكرم على الله من أبيه {وكلًا جعلنا نبيًا} أي أنعمنا عليهما بالنبوة {ووهبنا لهم من رحمتنا} أي مع ما وهبنا لهم من النبوة وهبنا لهم المال والولد وذلك أنه بسط لهم في الدنيا من سعة الرزق وكثرة الأولاد {وجعلنا لهم لسان صدق عليًا} يعني ثناء حسنًا رفيعًا في أهل كل دين حتى دعا لهم أهل الأديان كلهم فهم يتولونهم ويثنون عليهم.
قوله: {واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصًا} قرىء بكسر اللام أي أخلص العبادة، والطاعة لله تعالى ولم يراء وقرئ بالفتح أي مختارًا اختاره الله تعالى ثم استخلصه واصطفاه {وكان رسولًا نبيًا} فهذان وصفان مختلفان فكل رسول نبي ولا عكس {وناديناه من جانب الطور الأيمن} أي من ناحية يمين موسى، والطور جبل معروف بين مصر ومدين ويقال إن اسمه الزبير، وذلك حين أقبل من مدين ورأى النار فنودي يا موسى إنى أنا رب العالمين {وقربناه} قال ابن عباس: قربه وكلمه ومعنى التقريب إسماعه كلامه وقيل رفعه على الحجب حتى سمع صرير الأقلام، وقيل معناه رفع قدره ومنزلته أي وشرفناه بالمناجاة وهو قوله تعالى: {نجيًا} أي مناجيًا {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيًا} وذلك أن موسى دعا ربه فقال واجعل لي وزيرًا من أهلي هارون أخي فأجاب الله دعوته، وأرسل إلى هارون ولذلك سماه هبة له وكان هارون أكبر من موسى.
قوله: {واذكر في الكتاب إسماعيل} هو إسماعيل بن إبراهيم وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم {إنه كان صادق الوعد} قيل إنه لم يعد شيئًا إلا وفى به وقيل إنه وعد رجلًا أن يقوم مكانه حتى يرجع الرجل فوقف إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد، حتى رجع إليه الرجل وقيل إنه وعد نفسه الصبر على الذبح فوفى به، فوصفه الله بهذا الخلق الحسن الشريف، سئل الشعبي عن الرجل يعد ميعادًا إلى أي وقت ينتظر فقال إن وعده نهارًا فكل النهار وإن وعده ليلًا فكل الليل، وسئل بعضهم عن مثل ذلك فقال إن وعده في وقت صلاة ينتظر إلى وقت صلاة أخرى {وكان رسولًا} إلى جرهم، وهم قبيلة من عرب اليمن نزلوا على هاجر أم أسماعيل بوادي مكة حين خلفهم إبراهيم، وجرهم هو جرهم بن قحطان بن عابر بن شالخ وقحطان أبو قبائل اليمن {نبيًا} أي مخبرًا عن الله تعالى {وكان يأمر أهله} أي قومه وجميع أمته {بالصلاة والزكاة} قال ابن عباس: يريد الصلاة المفروضة عليهم وهي الحنيفية التي افترضت علينا، وقيل كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاة والعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم {وكان عند ربه مرضيًا} أي قائمًا لله بطاعته وقيل رضيه لنبوته ورسالته وهذا نهاية في المدح لأن المرضي عند الله هو الفائز في كل طاعة بأعلى الدرجات.
قوله: {وإذكر في الكتاب إدريس} هو جد أبي نوح واسمه أخنوخ، سمي إدريس لكثرة دراسة الكتب وكان خياطًا وهو أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب وليس المخيط وكانوا من قبل يلبسون الجلود وهو أول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار، وأول من نظر في علم الحساب.
{إنه كان صديقًا نبيًا} وذلك أن الله تعالى شرفه بالنبوة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة {ورفعناه مكانًا عليًا} قيل هي الرفعة بعلو المرتبة في الدنيا، وقيل إنه رفع إلى السماء.
وهو الأصح يدل عليه ما روى أنس بن مالك بن صعصعة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ليلة المعراج» متفق عليه وكان سبب رفع إدريس إلى السماء الرابعة على ما قاله كعب الأحبار وغيره: أنه سار يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال: يا رب إني مشيت يومًا فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف فقال يا رب خلقتني لحر الشمس فما الذي قضيت فيه؟ قال إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها، فأجبته قال يا رب فاجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه خلة فأذن له حتى أتى إدريس، فكان إدريس يسأله ما سأله أن قال إني أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي لعلي ازداد شكرًا وعبادة فقال الملك: {ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها} وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملك الموت فقال له إليك حاجة صديق لي من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله، فقال ملك الموت ليس لي ذلك ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيقدم لنفسه قال نعم فنظر في ديوانه فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبدًا. قال وكيف ذلك فقال لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس. قال إني أتيتك وتركته هناك قال انطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات فوالله ما بقي من عمر إدريس شيء فرجع الملك فوجده ميتًا وقال وهب: كان يرفع لإدريس فاستأذن ربه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم وكان إدريس يصوم الدهر، فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى الطعام فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال، فأنكره إدريس وقال له في الليلة الثالثة: إني أريد أن أعلم من أنت قال: أنا ملك الموت، استأذنت ربي أن أصحبك فقال لي إليك حاجة قال وما هي قال تقبض روحي. فأوحى الله إليه أن اقبض روحه وردها الله إليه بعد ساعة فقال له ملك الموت ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال لأذوق كرب الموت وغمه فأكون أشد استعدادًا له. ثم قال له إدريس لي إليك حاجة أخرى. قال وما هي قال ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار فأذن الله له فرفعه فلما قرب من النار قال لي إليك حاجة قال وما هي قال أريد أن أسأل مالكًا أن يرفع أبوابها فأراها. ففعل قال فكما أريتني النار فأرني الجنة. فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتحت أبوابها فأدخله الجنة ثم قال له ملك الموت اخرج لتعود إلى مقرك فتعلق بشجرة، وقال ما أخرج منها فبعث الله إليه ملكًا حكمًا بينهما قال له الملك ما لك لا تخرج؟ قال لأن الله تعالى قال: {كل نفس ذائقة الموت} وقد ذقته ثم قال: {وإن منكم إلا واردها} فأنا وردتها وقال: {وما هم منها بمخرجين} فلست أخرج فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بإذني دخل الجنة وبأمري لا يخرج فهو حي هناك فذلك قوله تعالى: {ورفعناه مكانًا عليًا} واختلفوا في أنه حي في السماء أم ميت.
فقال قوم هو ميت واستدل بالأول.
وقال قوم هو حي واستدل بهذا.
وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء أثنان في الأرض وهما الخضر وإلياس.
وإثنان في السماء وهما إدريس وعيسى.
قوله: {أولئك الذي أنعم الله عليهم من النبيين} أولئك إشارة إلى المذكورين في هذه السورة أنعم الله عليهم بالنبوة وغيرها ما تقدم وصفه {من ذرية آدم} يعني إدريس ونوحًا {وممن حملنا مع نوح} أي ومن ذرية من حملنا مع نوح في السفينة يريد إبراهيم لأنه ولد سام بن نوح {ومن ذرية إبراهيم} يعني إسحاق وإسماعيل ويعقوب {وإسرائيل} أي ومن ذرية إسرائيل وهو يعقوب وهم موسى ويحيى وهارون وزكريا وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم فرتب الله تعالى أحوال الأنبياء الذين ذكرهم على هذا الترتيب منها بذلك على أنهم كما شرفوا بالنسب ثم قال تعالى: {ومن هدينا واجتبينا} أي هؤلاء من أرشدنا واصطفينا وقيل من هدينا إلى الإسلام واجتبينا على الأنام {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا} جمع ساجد {وبكيًا} جمع باك، أخبر الله تعالى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا إذا سمعوا آيات الله سجدوا وبكوا خضوعًا وخشوعًا وخوفًا حذرًا. والمراد من الآيات ما خصهم به من الكتب المنزلة عليهم، وقيل المراد من الآيات ذكر الجنة والنار والوعد والوعيد ففيه استحباب البكاء خشوع القلب عند سماع القرآن.
فصل.
وسجدة سورة مريم من عزائم سجود القرآن، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند تلاوة هذه السجدة، وقيل يستحب لمن قرأ آية سجدة فسجد أن يدعو بما يناسب تلك السجدة، فإن قرأ سجدة سبحان قال اللهم اجعلني من الباكين إليك والخاشعين لك.
وإن قرأ سجدة مريم قال اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك.
وإن سجد سجدة ألم السجدة قال اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. اهـ.

.قال ابن جزي:

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)}.
{قَوْلَ الحق} بالرفع خبر مبتدأ تقديره: هذا قول الحق، أو بدل أو خبر بعد خبر، وبالنصب على المدح بفعل مضمر، أو على المصدرية من معنى الكلام المتقدم {فِيهِ يَمْتُرُونَ} أي يختلفون فهو من المراء، أو يشكون فهو من المِرية، والضمير لليهود والنصارى {وَإِنَّ الله رَبِّى} من كلام عيسى وقرئ بفتح الهمز تقديره ولأن الله ربي وربكم فاعبدوه، وبكسرها لابتداء الكلام، وقيل: هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: يا محمد قل لهم ذلك عيسى بن مريم، وأن الله ربي وربكم، والأول أظهر {فاختلف الأحزاب} هذا ابتداء إخبار، والأحزاب اليهود والنصارى، لأنهم اختلفوا في أمر عيسى اختلافًا شديدًا، فكذبه اليهود وعبده النصارى، والحق خلاف أقوالهم كلها {مِن بَيْنِهِمْ} معناه من تلقائهم، ومن أنفسهم وأن الاختلاف لم يخرج عنهم {مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني يوم القيامة {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة، على أنهم في الدنيا في ضلال مبين. {يَوْمَ الحسرة} هو يوم يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود لا موت، وقيل: هو يوم القيامة وانتصاب يوم على المفعولية، لا على الظرفية {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} يعني في الدنيا، فهو متعلق بقوله في ضلال مبين أي بأنذرهم. {صِدِّيقًا} بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق، ووصفه بأنه صدّيق قبل الوحي نُبِّئ بعده، ويحتمل أنه جمع الوصفين {مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ} يعني الأصنام {صراطا سَوِيًّا} أي قويما {لأَرْجُمَنَّكَ} قيل: يعني الرجم بالحجارة وقيل: الشتم {واهجرني مَلِيًّا} أي حينًا طويلًا، وعطف اهجرني على محذوف تقديره احذر رجمي لك {قَالَ سلام عَلَيْكَ} وداع مفارقة، وقيل: مسالمة لا تحية لأن ابتداء الكافر بالسلام لا يجوز {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ} وعد، وهو الذي أشير إليه بقوله: عن موعدة وعدها إياه قال ابن عطية، معناه: سأدعو الله أن يهديك فيغفر لك بإيمانك، وذلك لأن الاستغفار للكافر لا يجوز، وقيل: وعده أن يستغفر له مع كفره، ولعله كان لم يعلم أن الله لا يغفر للكفار حتى أعلمه بذلك، ويقوي هذا القول قوله: {واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين} [الشعراء: 86]، ومثل ثذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك {حَفِيًّا} أي بارًا متلطفًا.
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ} أي ما تعبدون {إسحاق وَيَعْقُوبَ} هما ابنه وابن ابنه، وهبهما الله له عوضًا من أبيه وقومه الذين اعتزلهم {مِّن رَّحْمَتِنَا} النبوّة، وقيل: المال والولد، واللفظ أعم من ذلك، لسان صدق يعني الثناء الباقي عليهم إلى آخر الدهر. {مُخْلِصًا} بكسر اللام أي أخلص نفسه وأعماله لله وبفتحها أي أخلصه الله للنبوّة والتقريب {وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} النبي أعم من الرسول، لأن النبي كل من أوحى الله إليه، ولا يكون رسولًا حتى يرسله الله إلى الناس مع النبوة، فكل رسول نبيّ وليس كل نبي رسول {وناديناه} هو تكليم الله له {الطور} وهو الجبل المشهور بالشام {الأيمن} صفة للجانب، وكان على يمين موسى حين وقف عليه ويحتمل أن يكون من اليمن {نَجِيًّا} النجي فعيل وهو المنفرد بالمناجاة وقيل: هو من المناجاة، والأول أصح {مِن رَّحْمَتِنَآ} من سببية أو للتبعيض، وأخاه على الأول مفعول وعلى الثاني بدل {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} روي أنه وعد رجلًا إلى مكان فانتظره فيه سنة، وقيل: الإشارة إلى صدق وعده في قصة الذبح في قوله: {ستجدني إِن شَاءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102]، وهذا يدل على قول ما قال: إن الذبيح هو إسماعيل.
{إِدْرِيسَ} هو أول نبيّ بعث إلى أهل الأرض بعد آدم، وهو أول من خط بالقلم، ونظر في علم النجوم وخاط الثياب، وهو من أجداد نوح عليه السلام {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} في حديث الإسراء: وإنه في السماء الرابعة، وقيل: يعني رفعة النبوة وتشريف منزلته. والأول أشهر ورجحه الحديث {أولئك} إشارة إلى كل من ذكر في هذه السورة، من زكريا إلى إدريس {مِّنَ النبيين} من هنا للبيان، والتي بعدها للتبعيض {مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ} يعني نوحًا وإدريس {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا} يعني إبراهيم {وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} يعني إسماعيل وإسحاق ويعقوب {وَإِسْرَائِيلَ} يعني أن من ذريته موسى وهارون ومريم وعيسى وزكريا ويحيى {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} يحتمل العطف على من الأولى أو الثانية {وَبُكِيًّا} جمع باك ووزنه فعول. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)}.
{ذلك} أي: الذي تقدّم نعته بقوله: {إني عبد الله} إلى آخره هو {عيسى ابن مريم} لا ما يصفه النصارى بقولهم أنه الله أو ابنه أو إله ثالث فهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ والطريق البرهاني حيث جعل الموصوف بأضداد ما يصفونه وفي ذلك تنصيص على أنه ابن هذه المرأة وقوله تعالى: {قول الحق} قرأ عاصم وابن عامر بنصب اللام على أنه مصدر مؤكد والباقون بالرفع على أنه خبر محذوف أي: هو قول الحق الذي لا ريب فيه والإضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة ثم عجب تعالى من ضلالهم فيه بقوله تعالى: {الذي فيه يمترون} أي: يشكون شكًا يتكلفونه ويجادلون فيه فتقول اليهود ساحر وتقول النصارى ابن الله مع أنّ أمه امرأة في غاية الوضوح ليس موضعًا للشك أصلًا ثم دل على كونه حقًا في كونه ابنًا لأمّه مريم لا غيرها بقوله ردًا على من ضلّ {ما كان} أي: ما صح ولا يتأتى ولا يتصوّر في العقول ولا يصح ولا يأتي لأنه من المحال لكونه يلزم منه الحاجة {لله} الغني عن كل شيء {أن يتخذ من ولد} وأكده بمن لأنّ المقام يقتضي النفي العام، ولما كان اتخاذ الولد من النقائص أشار إلى ذلك بالتنزيه العام بقوله تعالى: {سبحانه} أي: تنزه عن كل نقص أي: من احتياج إلى ولد أو غيره ثم علل ذلك بقوله عز وجل {إذا قضى أمرًا} أي: أيّ أمر كان أي: أراد أن يحدثه {فإنما يقول له كن} أي: يريده ويعلق قدرته به وقوله تعالى: {فيكون} قرأه ابن عامر بنصب النون بتقدير أن أو على الجواب والباقون بالرفع بتقدير هو وقوله: {وإنّ الله ربي وربكم} إخبار عن عيسى عليه السلام أنه قال ذلك وقرأ ابن عامر والكوفيون بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بفتحها بتقدير حذف حرف الجرّ متعلق بما بعده والتقدير ولأنّ الله ربي وربكم {فاعبدوه} وحده لتفرده بالإحسان كما أعبده كقوله تعالى: {وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا} [الحجر].، والمعنى لوحدانيته أطيعوه وقيل: إنه عطف على الصلاة والتقدير وأوصاني بالصلاة وبأنّ الله وإليه ذهب الفراء {هذا} أي: الذي أمرتكم به {صراط} أي: طريق {مستقيم} أي: يقود إلى الجنة وقرأ قنبل بالسين وخلف بإشمام الصاد والباقون بالصاد الخالصة، واختلف في قوله تعالى: {فاختلف الأحزاب من بينهم} فقيل هم النصارى واختلافهم في عيسى أهو ابن الله أو إله معه أو ثالث ثلاثة وسموا أحزابًا لأنهم تحزبوا ثلاث فرق في أمر عيسى النسطورية والملكانية واليعقوبية، وقيل: هم اليهود والنصارى فجعله بعضهم ولدًا وبعضهم كذابًا، وقيل: هم الكفار الشامل لليهود والنصارى وغيرهم من الذين كانوا في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ابن عادل: وهذا هو الظاهر لأنه لا تخصيص فيه ويؤيده قوله تعالى: {فويل للذين كفروا} أي: شدّة عذاب لهم {من مشهد يوم عظيم} أي: حضور يوم القيامة وأهواله وقوله تعالى: {أسمع بهم وأبصر} أي: بهم، صيغتا تعجب بمعنى ما أسمعهم وما أبصرهم {يوم يأتوننا} في الآخرة لأنّ حالهم في شدّة السمع والبصر جديرة بأن يتعجب منها فيندمون حيث لا ينفعهم الندم ويتمنون المحال من الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا فلا يجابون إلى ذلك بل يسلك بهم في كل ما يؤذيهم ويهلكهم ويرديهم وقوله تعالى: {لكن الظالمون} من إقامة الظاهر مقام المضمر إشعارًا بأنهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر والأصل ولكنهم {اليوم} أي: في الدنيا {في ضلال مبين} أي: بين بذلك الضلال صموا عن سماع الحق وعموا عن إبصاره أي: اعجب منهم يا مخاطب في سمعهم وإبصارهم في الآخرة بعد أن كانوا في الدنيا صمًا وعميًا، وقيل: معناه التهديد بما سيسمعونه وسيبصرون ما يسوءهم ويصدع قلوبهم ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن ينذر قومه بقوله: {وأنذرهم} أي: خوّفهم {يوم الحسرة} هو يوم القيامة يتحسر فيه المسيء على ترك الإحسان والمحسن على عدم الازدياد من الإحسان لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من أحد يموت إلا ندم قالوا وما ندمه يا رسول الله قال إن كان محسنًا ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون نزع» وفي قوله تعالى: {إذ قضى الأمر} وجوه:
أحدها: إذ قضى الأمر ببيان الدلائل وشرح أمر الثواب والعقاب.
ثانيها: إذ قضى الأمر يوم الحسرة بفناء الدنيا وزوال التكليف.
ثالثها: قضى الأمر فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت كما روى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: {إذ قضي الأمر} فقال: «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرح وأهل النار غمًا إلى غم» وقوله تعالى: {وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} جملتان حاليتان وفيهما قولان؛ أحدهما: أنهما حالان من الضمير المستتر في قوله في ضلال مبين أي: استقرّوا في ضلال مبين على هاتين الحالتين السيئتين، والثاني: أنهما حالان من مفعول أنذرهم أي: أنذرهم على هذه الحالة وما بعدها وعلى الأوّل يكون قوله وأنذرهم اعتراضًا والمعنى وهم في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة وهم لا يصدّقون بذلك اليوم ولما كان الإرث هو حوز الشيء بعد موت أهله وكان سبحانه وتعالى قد قضى بموت الخلائق أجمعين وأنه تعالى يبقى وحده عبّر عن ذلك بالإرث مقرّرًا به مضمون الكلام السابق فقال مؤكدًا تكذيبًا لقولهم: إنّ الدهر لا يزال هكذا حياة لناس وموت لآخرين.